حكم دعاء الاستفتاح

ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ دعاء الاستفتاح سنّة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لما ورد من الأحاديث والآثار في صيغ الاستفتاح -التي سيتم ذكرها والإشارة إليها في هذا المقال-، وذهب جماعة من أصحاب الإمام أحمد إلى القول بوجوب الذكر والثناء عند استفتاح الصلاة، كالاستفتاح بإحدى صيغ الدعاء ونحوها من الأذكار، وكان الإمام مالك لا يرى ما يستفتح به الناس، ولا يعرفه -كناية عن قوله بعدم مشروعته-، كما ذُكر عنه في المدونة.[١]


بينما ذهب المالكيّة إلى كراهة دعاء الاستفتاح؛ للحديث الثابت في الصحيح: (أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وأَبَا بَكْرٍ، وعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عنْهما- كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بـ "الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ")،[٢] إضافة إلى حديث المسيء في صلاته؛ الذي أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بإعادة الصلاة، حيث قال رسول الله في إرشاد ذلك الرجل: (... إذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ، فأسْبِغِ الوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ، فَكَبِّرْ واقْرَأْ بما تَيَسَّرَ معكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ...)،[٣] فلم يذكر له الاستفتاح.[٤]


صيغ دعاء الاستفتاح

ورد في دعاء الاستفتاح العديد من الصيغ التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستفتح بها صلاته، منها ما جاء عاماً يُستفتح به صلاة الفريضة وصلاة النافلة على حدٍ سواء، ومنها ما جاء خاصاً باستفتاح صلاة الليل؛ ونذكر من هذه الصيغ على سبيل الذكر لا الحصر ما يأتي:[٥]


  • صيغ الاستفتاح الواردة في الصلاة عموماً
  • ما ثبت عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: (كانَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يَسْكُتُ بيْنَ التَّكْبِيرِ وبيْنَ القِرَاءَةِ إسْكَاتَةً -قالَ أَحْسِبُهُ قالَ: هُنَيَّةً- فَقُلتُ: بأَبِي وأُمِّي يا رَسولَ اللَّهِ، إسْكَاتُكَ بيْنَ التَّكْبِيرِ والقِرَاءَةِ ما تَقُولُ؟ قالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وبيْنَ خَطَايَايَ، كما بَاعَدْتَ بيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الخَطَايَا كما يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بالمَاءِ والثَّلْجِ والبَرَدِ).[٦]


  • ما صحّ عن أسامة بن عمير الهذليّ -رضي الله عنه- أنّه صلّى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الفجر، فصلّى النبي ركعتين خفيفتين؛ فسمعه أسامة يقول فيها: (... اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْريلَ وميكائيلَ وإسْرافيلَ ومُحَمَّدٍ، أَعوذُ بك مِن النَّارِ...).[٧]


  • ما صحّ عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- أنّه قال: (رأَيْتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حينَ دخَل الصَّلاةَ قال: اللهُ أكبرُ كبيرًا، اللهُ أكبرُ كبيرًا، اللهُ أكبرُ كبيرًا، الحمدُ للهِ كثيرًا، الحمدُ للهِ كثيرًا، الحمدُ للهِ كثيرًا، سُبحانَ اللهِ بُكرةً وأصيلًا، سُبحانَ اللهِ بُكرةً وأصيلًا، سُبحانَ اللهِ بُكرةً وأصيلًا، اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن الشَّيطانِ مِن همزِه ونَفْثِه ونفخِه).[٨]


  • ما جاء عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: (كان النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إذا افتتح الصلاةَ قال: سبحانك اللَّهُمََّ وبحَمْدِك، وتبارك اسمُك، وتعالى جَدُّك، ولا إلهَ غَيرُك)،[٩] وفي رواية الإمام مسلم أنّ هذا الدعاء منسوب لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ فقد ثبت عن عبدة بن أبي لبابة -رضي الله عنه- أنّه قال: (إنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ كانَ يَجْهَرُ بهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ يقولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وتَعَالَى جَدُّكَ، ولَا إلَهَ غَيْرُكَ).[١٠]


  • صيغ الاستفتاح الواردة في صلاة الليل
  • ما ثبت عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في استفتاح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الليل، أنّه كان يقول: (... وَجَّهْتُ وَجْهي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا، وَما أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَرِيكَ له، وَبِذلكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بذَنْبِي، فَاغْفِرْ لي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأخْلَاقِ، لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ ليسَ إلَيْكَ، أَنَا بكَ وإلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ...).[١١]


  • ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، أنّها قالت: (... كانَ -تقصد النبي صلوات الله عليه- إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فيه يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِما اخْتُلِفَ فيه مِنَ الحَقِّ بإذْنِكَ؛ إنَّكَ تَهْدِي مَن تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).[١٢]


  • ما ثبت عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- أنّه قال: (كانَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قالَ: اللَّهُمَّ لكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ لكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ...).[١٣]
  • يكمل ابن عباس في ذكر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: (... ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ الحَقُّ ووَعْدُكَ الحَقُّ، ولِقَاؤُكَ حَقٌّ، وقَوْلُكَ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، والنَّبِيُّونَ حَقٌّ، ومُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- حَقٌّ، والسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لكَ أسْلَمْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وإلَيْكَ أنَبْتُ، وبِكَ خَاصَمْتُ، وإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ وما أعْلَنْتُ، أنْتَ المُقَدِّمُ، وأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لا إلَهَ إلَّا أنْتَ).[١٣]


  • ما صحّ عن عاصم بن حميد -رضي الله عنه- أنّه سأل أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن استفتاح رسول الله لصلاة الليل؛ فقالت: (... كانَ يُكبِّرُ عشرًا، ويحمدُ عشرًا، ويسبِّحُ عشرًا، ويستغفرُ عشرًا، ويقولُ: اللَّهمَّ اغفر لي واهدني، وارزقني وعافني، ويتعوَّذُ من ضيقِ المقامِ يومَ القيامةِ).[١٤]


وقت قراءة دعاء الاستفتاح

يُشرع دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام، وقبل قراءة الفاتحة؛ استدلالاً بما ثبت في الأحاديث السابقة،[١٥] ولكن إذا كان المصلي مأموماً، وأدرك الإمام وهو يقرأ الفاتحة؛ فالأولى به أن يُنصت ولا يقرأ دعاء الاستفتاح، لفوات محلّه في الصلاة، والانشغال بالواجب؛ فدعاء الاستفتاح سنّة، بينما الاستماع والإنصات للإمام في الصلاة واجب؛ فيسقط دعاء الاستفتاح في مثل هذه الحالة.[١٦]


الأفضل في دعاء الاستفتاح

اتفق أهل العلم على جواز الاستفتاح بكل ما ثبت أو ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، من التكبير والثناء والحمد، وبما كان من أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم- الواردة في القرآن الكريم، أو غير الواردة فيه، ولكن وجب التنبيه إلى بعض الأمور الهامّة المتعلقة في هذه المسألة، والتي نلخصّها على النحو الآتي:[١٧]

  • الاكتفاء بدعاء استفتاح واحد عند استفتاح الصلاة؛ إذ لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه جمع بين أكثر من دعاء في استفتاح واحد.
  • الاهتداء بهديّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتحصيل السنّة يكون بقول أحد أدعية الاستفتاح كاملاً لا بقول جزءٍ منه.
  • يُستحبّ أن يدعو المصلي بأدعية الاستفتاح الطويلة إذا كان منفرداً، أو كان يُصلي قيام الليل، بينما يدعو بالقصيرة منها في صلاة الجماعة؛ لأنّ الأصل التخفيف على الناس في الصلاة.
  • أصحّ أدعية الاستفتاح إسناداً ما رواه الشيخان -البخاري ومسلم-، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، والذي جاء فيه: (... اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وبيْنَ خَطَايَايَ، كما بَاعَدْتَ بيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ...).[٦]

المراجع

  1. مجموعة من المؤلفين، الموسوعة الفقهية الكويتية، صفحة 48، جزء 4. بتصرّف.
  2. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:743، صحيح.
  3. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:6667، صحيح.
  4. مجموعة من المؤلفين، الموسوعة الفقهية الكويتية، صفحة 88، جزء 27. بتصرّف.
  5. ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد، صفحة 223-226، جزء 1.
  6. ^ أ ب رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:744، صحيح.
  7. رواه الضياء المقدسي، في الأحاديث المختارة، عن أسامة بن عمير الهذلي، الصفحة أو الرقم:1422، أورده في المختارة وقال هذه أحاديث اخترتها مما ليس في البخاري ومسلم.
  8. رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن جبير بن مطعم، الصفحة أو الرقم:2601، أخرجه في صحيحه.
  9. رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:243 ، قال الترمذي لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفيه حارثة بن أبي الرجال تكلم فيه من قبل حفظه.
  10. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبدة بن أبي لبابة، الصفحة أو الرقم:399، صحيح.
  11. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن علي بن أبي طالب، الصفحة أو الرقم:771، صحيح.
  12. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:770، صحيح.
  13. ^ أ ب رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:1120، صحيح.
  14. رواه ابن ماجه، في سنن ابن ماجه، عن عاصم بن حميد، الصفحة أو الرقم:1123، صححه الألباني.
  15. الرافعي، فتح العزيز بشرح الوجيز الشرح الكبير، صفحة 302، جزء 3. بتصرّف.
  16. محمد بن محمد المختار الشنقيطي، شرح زاد المستقنع، صفحة 12، جزء 59. بتصرّف.
  17. دبيان الدبيان، الجامع في أحكام صفة الصلاة، صفحة 66، جزء 2. بتصرّف.