هل سماع الأغاني يبطل الصيام؟

الإجابة على هذا السّؤال يتمّ في سياق اعتبار الأغاني بصورتها الشائعة بين النّاس محرّمة، حيث تتضمّن مخالفات شرعية عديدة، منها مصاحبة الأغاني للموسيقى، وما فيها من كلام فاحش ورذيلة، وقد تناول أهل العلم مسألة أثر المعاصي على صحة الصيام، وفيما يأتي توضيح للمسألة.


مذهب القائلين بصحة الصيام مع نقصان الأجر

ذهب جمهور أهل العلم إلى أنّ المعاصي ينقص بها أجر الصائم؛ لكنّه لا يُبطله، واستدلّوا بعدّة أدلة، منها أنّ المُحرَّم شرعاً يُفسد العبادة إذا كان مُحرَّما في ذات العبادة، أمّا إن كان تَحريمه تحريماً عاماً؛ فإنّه لا يفسدها، ومثال ذلك للتوضيح: الأكل والشرب والجماع يبطل بها صيام الصائم؛ لكونها مُحرَّمة في ذات العبادة، خلافاً للمعاصي كالغيبة والاستماع للمحرّمات وقول الزّور فإنّ تحريمَها جاء عامّاً؛ فهي محرّمة في سائر الأوقات.[١]


ودليلهم على هذا الفهم ظاهر النّص في القرآن الكريم؛ حيث يقول -سبحانه-: (... وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ...)،[٢] وقد استقرّ إجماع أهل العلم على ذلك.[١]


والقول بعدم بطلان صيام العاصي جاء من باب تحقيق مسألة مفسدات الصيام، لا من باب إقرار معصية الصائم؛ فكون المعصية لا تُفسد صيامه لا يعني أنّ ثواب صيامه كغيره من الصائمين الذين حفظوا حُرمة صيامهم وحققّوا مقصوده كما أراد الله -عزّ وجل- حيث يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).[٣]


عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْكَ فَلْتَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ).[٤] وأخرج ابن خزيمة تحت عنوان: نفي ثواب الصوم عن الممسك عن الطعام والشراب مع ارتكابه ما زجر عنه غير الأكل والشرب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ).[٥]


مذهب القائلين ببطلان الصيام

ذهب طائفة من أهل العلم كالأوزاعي وابن حزم الظاهري ومن وافقهم إلى القول بأنّ المعاصي يفسد بها صيام الصائم، ووصف بعض المحققين ابن حزم بالإفراط عندما ذهب إلى أنّ الصوم يبطل بكلّ معصية تعمّد العاصي فعلها وهو ذاكرٌ لصومه، ومن أدلّة القائلين ببطلان الصيام ما صحّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ فلا يَرْفُثْ ولَا يَجْهلْ ...)،[٦] وقد خالفهم جمهور أهل العلم في فهم الحديث وتوجيهه.[٧]


وتعقيباً على الحديث الصحيح: (مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجَهْلَ، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ)،[٨] ذكر الإمام البيضاوي أنّ المقصود من شِرعة الصوم ليس ذات الجوع والعطش، وإنّما ما يتْبع ذلك من تطويع للنّفس بإقامتها على الطاعة، وهذا لا يكون إلا بكسر شهوة المعصية والميل لها؛ فإنْ لم يتحقّق للصائم شيء من ذلك، ولم تتأثّر نفسه بالصّيام، ولم ينلْ من صومه إلا الجوع والعطش؛ عندها لا يبالي الله -سبحانه- بصومه.[٩]


ويخلُص البيضاوي إلى الاستنتاج بأنّ قوله: "فليس لله حاجة" مجاز عن عدم الالتفات والقبول؛ فنفى السبب، وأراد نفي المُسبّب.[٩] وأيّاً كان الأمر؛ فإنّ الصائم لا يليق به أنْ يُشغل وقته في ساعات الصيام بما يصرفُ همّته عن الطاعة، والأجدر به أنْ يقْدر لأيام الصيام قدرها من الالتزام والإقبال على الله ومداومة الذّكر؛ خاصة إذا كان الصيام في شهر رمضان، وصدق الله -عزّ وجلّ- إذ يقول:(ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).[١٠]

المراجع

  1. ^ أ ب موافقي الأمين، الاختيارات الفقهية للشيخ عبيد الله المباركفوري كتاب الصيام والاعتكاف، صفحة 357-358. بتصرّف.
  2. سورة البقرة، آية:187
  3. سورة البقرة، آية:183
  4. رواه ابن خزيمة، في صحيح ابن خزيمة، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1996، إسناده صحيح.
  5. رواه ابن خزيمة، في صحيح ابن خزيمة، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1997، إسناده صحيح.
  6. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1894 ، صحيح.
  7. سيد حسين العفاني، نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان، جدة:دار ماجد عسيري ، صفحة 59، جزء 1. بتصرّف.
  8. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:6057 ، صحيح.
  9. ^ أ ب ناصر الدين البيضاوي (2012)، تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة، الكويت:وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، صفحة 497، جزء 1. بتصرّف.
  10. سورة الحج، آية:32